أهمية الإفتاء المؤسسي (1/3)
إن القارئ لتاريخنا الإسلامي ونشوء دُوَلِه يلحظ مدى اهتمامها - منذ أن كانت دولته الأولى لا تتعدى مساحتها بضع كيلو مترات إلى أن أصبحت دولة مترامية الأطراف – بإيجاد مرجعية علمية رسمية له مع عدم إهمال أقوال العاملين في الحقل العلمي الشرعي؛ ففي العصر النبوي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المرجعية العلمية حيث إنه هو المبلغ عن الله عز وجل .
وفي عصر الخلافة الراشدة كان الخلفاء هم المرجع العلمي للدولة، وأوضح صورة لذلك فتاوى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الكثيرة والتي التزم بها عامة الصحابة؛ كإمضاء الطلاق ثلاثاً، وجواز جمع الناس على إمام واحد في القيام، وكالمسألة الحِماريَّة وغيرها كثير. ولم يكن لأحد أن يخالف الخليفة في اجتهاده في الغالب ولو كان يرى خلاف رأي الخليفة -إلا في بعض الحوادث الفردية- فقد جاء في مصنف عبد الرزاق رحمه الله (عن معمر عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان صدرا من خلافته كانوا [يُصلُّون] بمكة وبمنى ركعتين، ثم إن عثمان صلاها أربعاً، فبلغ ذلك ابن مسعود فاسترجع، ثم قام فصلى أربعاً. فقيل له: استرجعت ثم صليت أربعاً؟! قال: الخلاف شر) .
وفي العصر الأموي كذلك تنبَّهوا لخطورة الفتوى والتشويش على العامة، لذا كان لا يُسمح بالفتوى إلا لمن نصَّبه ولي الأمر لذلك؛ فقد جاء في أكثر من مرجع أنه (في زمان بني أميَّة يأمرون في الحاج صائحاً يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن عطاء فعبد الله بن أبي نجيح)، بل كانوا حريصين على أن يُنصِّبوا للفتوى من هو أهلٌ وإن لم يكن بشكل المفتي الرسمي. ولكن نستطيع أن نقول إنهم أول من سعى في تنصيب مُفتٍ للدولة؛ حيث جاء في أخبار مكة للفاكهي: (حدثنا محمد بن منصور قال: قال سفيان: قال عمرو بن دينار: لما مات عطاء قال: قال لي ابن هشام: اجلس للناس وأرزقك. قلت: لا) ، وهذا الخبر يشير إلى أن عطاء رحمه الله كان المفتي للدولة الأموية وإن كان لا ينص على ذلك .
وفي العصر العباسي كان قاضي قضاة الدولة فيه الغُنية لممارسة عمل الفتوى والقضاء معاً؛ حيث إنه يُعدُّ مفتي الدولة الرسمي، فهو المرجعية الشرعية – في الغالب - للخليفة ولعامة الناس من باب أولى .
وثمَّ نقطة مهمة لا بد من التنويه إليها ألا وهي أنه مع ما ذكرنا من أحوال الدول الإسلامية مع الإفتاء وحرصهم على أن يكون هناك مرجعية رسمية له، غير أن خلفاء وملوك الدولة الإسلامية كانوا يتمتعون بسعة الأفق وبُعد النظر، فلم يَحجروا على عامة العلماء والفقهاء أن يمارسوا عمل الإفتاء مع مستفتيهم، حيث إنه من الصعوبة بمكان أن يستوعب مفتي الدولة كل إشكال شرعي يطرأ على كل فرد في العالم الإسلامي، لذلك برز كثير من العلماء والفقهاء في أكناف تلك الدول المتعاقبة، وانتشرت اختياراتهم الفقهية في أصقاع المعمورة، غير أن الشاذ منها في كثير من الأحيان يكون تحت عين المراقب إذا ما أثرت تلك الفتاوى في النظام العام للدولة؛ فقد يوقف المفتي ويتعرض للمساءلة والأمثلة كثيرة. ولكن للأسف قد استخدم هذا الحق بتعسف مع بعض العلماء الثقات، إلا أن مثل هذه الحوادث تظل استثنائية في تاريخنا الكبير والممتد مئات السنين.
بقلــم
مدير إدارة الإفتاء
تركي عيسى المطيري